لم تتوقف السلطات العسكرية الحاكمة في المنطقة ودولها الناشئة عن تهديم كل مقومات ونوى الدول الناشئة منتصف القرن الماضي، واليوم يبدو المشهد أكثر خطورة خاصة في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا. فمن موجة حركات التحرر الشعبي أواسط القرن الماضي من حكومات الانتداب الأوروبي بعد الحرب العالمية الثانية، إلى موجة حكم العسكر بانقلاباته المتعددة التي أرست حكومات ذات طابع الهيمنة المطلقة والاحكام والسيطرة وتأليه الفرد الحاكم. وها هي سورية اليوم تحصد نتائج كوارثها، تهجيراً وتدميراً وتغييراً ديموغرافياً، واستباحة أرضها وتاريخها بشتى قوى الاحتلال العسكري الخارجي ولازال حكم العسكر يتاجر بما بقي منها ويحتفل بحركته التصحيحية.
الأحزاب السلطوية الحاكمة استأثرت بالسلطة كلياً وصهرت الدولة ومؤسساتها في ذاتها الحاكمة، لتقصي بذلك على كل معارضيها، ومحولة الشعب إلى جمهور محتوىً سياسياً بهياكل “مؤسسية” و”نقابية” و”جمعيات أهلية” مفرغة من العمل السياسي وتابعة لمنظومة الحزب الواحد وعقائديته. دول سميت بالجمهوريات ذات نظم رئاسية قابلة للتوريث وتكريساً لديكتاتورية أوليغاريشية، تضرب على كل أوصال المجتمع بقبضة أمنية عسكرية حديدية. أجاد واسيني الأعرج بتسميتها “الجملكيات” في روايته “رمل الماية”، والتي تعني الجمع بين النظام الجمهوري “نظرياً” للدولة مع النظام الملكي التوريثي ذي الصبغة التعسفية الديكتاتورية. وهي ذاتها التي اجتاحتها جميعاً ثورات الربيع العربي ضد شموليتها واستبدادها واستباحتها لمكنون الشعب السياسي والوجداني والقيمي. هذه الجمهوريات أسماها خلدون حسن النقيب بالدولة التسلطية في كتابه “الدولة التسلطية في المشرق العربي المعاصر”، وبرعت حنة أرندت في تحليل هذه الظاهرة في تفنيدها لأسس الديكتاتورية ونظم عملها القائمة على تفريغ العمل السياسي من مضمونه وتحويل عموم الشعب لتابعين للسلطة وأيديولوجيتها وفقط..
فمنذ تعلقت الروح الوطنية بنموذجها العاطفي، والعاطفي أي دون التعليل العقلي والتفسير المنهجي، بنموذج العسكر المحرر للبلد من الاستعمار، حتى طفت على سطح المعادلة الوطنية جملة من الأوساط السياسية تتلاعب بهذه المشاعر وتعمل على تجيشيها في معادلة السلطة ونفي التحرر والكرامة الوطنية معاً! بدأت عمليات استئصال المعادلة الوطنية بوصفها نموذجاً عاطفياً وتصوراً للحياة ونظم المعاش وطريقة تعاقد البشر في حيزهم المجتمعي على شكل حكمهم.
لترسي نماذج ثلاث لوجودها في الساحة السياسية مطلقة شعارتها الفضفاضة بديلة عن نهاجية مؤسساتية تعقم وتطور انتاجها المعرفي والسياسي وبالضرورة المؤسسي في كل دورة سياسية أو اقتصادية. فحكم العسكر الذي صبغ حكم المنطقة لم يكن حكم البعث السياسي في سوريا والعراق وفقط، ولا حكم حركة التحرر الوطني المصرية، ولا حكم ثورة المليون شهيد في الجزائر ولنا أن نعد الكثير في ذلك، لكنه كان الرائز والمؤسس لثلاثة نماذج من الأوهام، وربما من الكذبات السياسية في تاريخنا المعاصر، تمثل شبكة عنكبوتية للاستبداد:
1- القومجية العربوية صانعة الحربين حرب الهزيمة المعلنة في 1967، والحرب التحريكية في 1973 والتي على اساسهما تحولت كل المشاعر العربية لمجرد حلم واهم في إمكانية استعادة فلسطين، ومعهم تحولت جموع الشعب لجمهور مصفق يردد أماني الشعارات الواهمة: في رمي إسرائيل في البحر، واليوم تكاد تضيع كامل فلسطين! والغريب في أن النموذج السلطوي العسكري وبالرغم من اعلامه المدوي: تسقط الإمبريالية، تسقط الصهيونية، وتذخر كل ميزانية الاقتصاد الوطني بنسبة تصل ل 85 % لمصلحة تحرير فلسطين لم تطلق طلقة واحدة عليها بل أطلقته على شعبها كما في سوريا. وليس فقط، بل عملت بكل ما أوتيت من دهاء ومكر على افساد المجتمع خاصة في قضائه وتعليمه ويقايض لقمة حياة المواطن بشعار براق.
2- تشجيع الفكر الشمولي المقابل متمثلاً بالطرق السياسية والدينية متعددة الأبعاد، والتي كانت لما قبل هذا النهوض القومجي محاولة في الفكر اليساري أو النهضوي في الدفاع عن الثقافة الأخرى البديلة وعن أزماتها المستعصية. تلك التي شكلت تحالفاً مع سلط العسكر الحاكمة في جبهة تقدمية تكتفي بفتات الوزارات الخدمية وتصفق لسلطة! تمارس السياسة زيفاً باسم “الديموقراطية” الانتخابية الفجة، وهي التي لم تتجاوز مستوى التعيين من قبل صناع السياسة المحلية على مستوى السلطة…
3- التحليل النفسي لأزمات الأفراد والذي يختص بإشكالات النمو العقلي والنفسي لدى الأفراد، مستثنياً الأساس الموضوعي لمشاكل المجتمع المتمثلة بهيمنة السلطة المستبد التعسفية القسرية وما كرسته من شموليات سياسية ودينية عملت على تكريسه رغم ادعائها عكس ذلك في حربها على الرجعية وما شابه. وبالضرورة تحولت مشكلات الشعب السياسية والفكرية والحريات والحقوق لحالات فردية نفسية ومشاكل تربوية وحسب، تستثني العمل على التغيير الديموقراطي السياسي العام ما جعل التحليل النفسي مثار جدل في قدرته على التعامل مع الحالات القهرية ونماذجها المعممة في واقع مجتمعي غير معافى فكرياً وسياسياً واقتصادياً…
الأوهام الثلاث أعلاه ليست الوحيدة في تاريخنا المعاصر، لكنها الأساس في مفصلة الموضوع الشعبي في اطار خارج المعادلة الوطنية وفي اطار هامشي من الثقافة والفكر، أعادت وسمحت بالضرورة لكل أطر ما قبل دولة بالظهور الى الساحة السياسية وإعادة بسط نموذجها في الحياة مرة أخرى. ما ظهر وتجلى بشكل واضح في حركات التحرر العربي في الربيع العربي، فقد سقطت الأيديولوجيات الشمولية والنفسانية التشخيصية أم معاناة الواقع المجتمعي وعجزها عن الوصول لداخل البنى المجتمعية، فيما تتكشف اليوم النزعات الأهلية بالبحث الخلاصي السياسي دون المستوى الوطني العام.
في المقولة النظرية، الشعب هو عام المجتمع بكل تعييناته ومضامينه الفكرية والسياسية والاجتماعية موالية كانت أم معارضة، وهو أيضاً تعيين الدولة بكل مكوناتها السياسية والاجتماعية؛ هذا ما حاوله الشعب حين أولى سلطات العسكر وفوضهم حكمه، وهي ذاتها درجت كحُزَب (جمع تكسير للحزب) على جعل المعادلة “الوطنية” هي الموالاة المطلقة المتجمهرة، وإلا فتهمة التخوين والتآمر هو النقيض المباشر لكل عمل، حتى وإن كان ثقافياً وفكرياً، وإلا لماذا تكثر بشكل مفرط تهمة التخوين والتعامل مع الخارج والتآمر على شعارات الحرية والاشتراكية في هذه النظم… فقط لأن كذبها التاريخي لا يمكن أن يندرج بالواقع الا على منوال احتكار الوطنية والحقيقة وبالضرورة إقامة الوهم والاستبداد والعسف المجتمعي وهدم كل مقوماته الوطنية الممكنة…..
لم تكن جمهوريات، ولم تكن حركة تصحيحية في سوريا، بل نموذج فاقع للاستبداد العنكبوتي المهيمن على المجتمع، واليوم، يساهم بكل مكر سياسي بالمشاركة في تدمير ما بقي من مدن المنطقة التي تتنازعها المشاريع الإقليمية الإسرائيلية والإيرانية فيما ترقب روسيا وأمريكيا وتركيا المشهد وقد تحولت سوريا بظل حكم التصحيح الزائف لساحة حرب يساهم حكم العسكر فيها ببيعها قطعة قطعة ليبقى بالسلطة وحسب ويحتفل وجبهته الوطنية بالتصحيح الواهم، والقادم أخطر…