بعد ضربات أيلول 2001 اضطرت الولايات المتحدة لمغادرة نشوة الانتصار في الحرب الباردة وتكريسها كقطب أحادي عالمي، بحيث دامت هذه النشوة لمدة عشر سنوات من 1991 تاريخ إعلان انهيار الاتحاد السوفييتي إلى 2001 عندما ضرب الإسلام الجهادي السني قلب الولايات المتحدة ومَرّغ جبروتها بالتراب وهو الأمر الذي لم يجرؤ عليه من قبل النازيون الألمان أو اليابانيون أو السوفييت.
ويمكنني القول أنّ الولايات المتحدة دخلت في تيه استراتيجي دام لعقدين من الزمن، حيث تَمّ إرتجال سياسات ردة فعل تَحوّلت لاستراتيجيات مؤقتة ومتخبطة تعتبر أنّ الإسلام السني خاصة بِبعده الحركي الجهادي هو العدو الأول للدولة الأعظم ، وكان لِزاماَ أن يَتمّ النظر إلى خصمه النوعي الإسلام الشيعي بِبعده العقائدي و الجهادي كإحدى الأدوات التي يمكن الاعتماد عليها في الحرب على الشبح الجهادي السني…
هَبّت الرباح باتجاه أشرعة ولاية الفقيه ومشروعها في المنطقة، إلى أن سيطرت في حقبة الربيع العربي وما بعده على أربع عواصم عرببة + غزة…
في العقدين الأولين من القرن الواحد والعشرين وفي ذروة انغماس القوة العظمى الأولى في الحرب على عدو شبحي سني ، بدأت في الظهور شرقاً قوى حقيقية طامحة لمنازعة الولايات المتحدة سيادتها على النظام الدولي وإنزالها من قيادته منفردةً وهي الصين وروسيا ،إضافةً لِتمدّد ميليشيات الولي الفقيه في قلب العالم أمام أعين الولايات المتحدة بل عبر مساعدتها أو تخادمها معها في أحيان أخرى ..
وبمناسبة قرب القضاء على د ا ع ش كانت تُوضع استراتيجيات أمريكية كبرى موضع التنفيذ حول العالم لاحتواء كل من الصين وروسيا وبالطبع كان لزاما على واشنطن احتواء نظام ولاية الفقيه المارق ونزع أسنانه الإقليمية و مخالبه النووية والتي مازالت ليّنة ، ولكن دون المساس بالنظام الديني السياسي الحاكم في طهران حيث مازال توظيفه في شرق وجنوب آسيا ( في المنطقة الممتدة بين الصين وروسيا ) حاجة استراتيجية أمريكية لإنهاك الخصمين الشرقيين وإشاعة فوضى خلاقة في منطقة الجمر فيها ملتهب ومُغطّى بالرماد و مُثقلة بالتناقضات الدينية والإثنية والقومية ، ومن سينفخ في هذا الجمر هو نظام ولاية الفقيه المذهبي ذو الألوان الفارسية.
كانت روسيا البوتينية تُوظّف فائض قوتها في حروب توسعية بعد أن تعافت داخلياً ، فغزى بوتين جورجيا 2008 و شبه جزيرة القرم في 2014 وبدأ يُكشّر عن أنيابه ، فيما كانت الصين أعلنت مشروعها التوسعي الناعم وأسمته بالحزام والطريق وهو تعبير عن امتلاكها فائض كبير من القوة.
في هذه المرحلة وَجَدَ الحرس الثوري الإيراني أنّ بإمكانه طرد الولايات المتحدة من غرب آسيا وبالتالي سيطرته على المنطقة بعد أن إطمأنّ إلى إحاطتة لإسرائيل بحزام ناري قوي يكون كافيا لردعها أو التفاهم معها على إعطائها بعص ما تطلبه .
وعندما كانت الولايات المتحدة تَنفضُ يديها من حقبة 2001 ( الحرب على الإرهاب ) استعجل قاسم سليماني باستخدام فائض القوة التي يَملكها وتمكّن في أيلول من القيام بعمل خطير له آثاره وتداعياته الدولية ومتجاهلاً وجود الولايات المتحدة وقواتها في المنطقة ، حيث أقدم على تدمير منشآت آرامكو السعودية في أيلول 2019 ..
واعتقد أنّ الولايات المتحدة كانت قد وضعت إستراتيجياتها الجديدة في العالم وفي الشرق الاوسط خصوصاً وتقوم بتنفيذها اعتباراً من خروج الرئيس ترامب من الاتفاق النووي ( 5+1 ) في أيار 2018 ، ولم يمرّ على ضربة آرامكو ثلاثة أشهر إلا وكان الرئيس ترامب يُعطي الإذن بقتل قاسم سليماني في بغداد في الثالث من شهر كانون اول 2020…..
في هذا الوقت وبسبب صخامة العملية ورمزيتها بات قادة نظام ولاية الفقيه على يقين بأنّ إستراتيجية أمريكية جديدة بدأ تنفيذها ، ولايُمكن إستبعاد عمليات الموساد الإسرائيلي في داخل إيران سواء بسرقة الأرشيف النووي من قلب طهران و اغتيال كثير من العلماء الإيرانيين وعلى راسهم فخري زادة ( أبو القنبلة النووية الإيرانية ) إلا في ضوء تنفيذ تلك الإستراتيجية بتأخير إمتلاك إيران للمعارف النووية ريثما يَتمّ الاجهاز على المشروع الإيراني بِرمّته..
بعد تَسلّم الرئيس بايدن مهامه بعدة أشهر قام في آب 2021 بسحب الجيش الأمريكي من أفغانستان تنفيذاً لإتفاقية إستغرق إعدادها عامان من حكم سلفه الجمهوري.
لم تغيب الخطوات الأمريكية المتتالية عن مراقبة الرئيس الروسي لها فقرأها في الشكل ولم يُدرك أو يُقدّر حجم القوة الأمريكية الهائلة ، فأراد إستباق مخططات الناتو ضِدّه بل وإستحواذ الصين على أولوية الاهتمامات الأمريكية فَقرّر إستغلال حالة التخبط الأمريكية ( كما فهمها ) أو إستباق خطورة نضوجها فقرر الدخول إلى أوكرانيا في أواخر شباط 2022 واحتلالها وخلط الأوراق غير المُرتّبة وبعثرتها في وجه الإدارة الديمقراطية التي كانت تبدو ضعيفة ، وغَرِقَ القيصر في الأوحال الأوكرانية واكتشف زيف حساباته أو قوة خصمه.
أعتقد أنّ المشروع الغربي ذو القيادة الأمريكية كان يسير وفق خطط أعدّت له و لكنه كان بإمكانه توظيف ما يعترضه من عقيات غير متوقعة في صالحه وعدم السماح لها بإيقافه أو تعطيل مساره ، فتمّ احتواء الغزو الروسي لأوكرانيا وتوظيفه في خدمة المشروع الأمريكي الدولي وأخرج روسيا بإمكاناتها الهائلة من لعبة الصراع الدولي وبات يٍستنزف قواها لتضمحلّ وتتآكل وتتعغن.
كان وفق الخطط المُعدّة مُسبقاً والتي ساهم الغزو الروسي لأوكرانيا بتسريع إنجازها ، هو متابعة ما بدأه الرئيس ترامب بفرض السلام الإبراهيمي بين الدول العربية والدولة العبرية وذلك كمقدمة لإخراج إيران من القضية الفلسطينية وإستغلالها لمآربها وبالتالي بتر أيّ علاقة لإيران بتلك القضية ، عبر نزع أذرعها منها وأهمها حركات المقاومة في غ ز ة وحزب الله اللبناني..
كان الهدف إنهاء حالة الصراع الإسلامي السني والعربي السني مع إسرائيل ، وكانت الحلقة الجوهرية في هذا المشروع تطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل بعد حلحلة ما للقضية الفلسطينية..
ولأنّ الغرب الجماعي
بدأ يكشف عن خططه للعلن بعد إخراج الروس من المعادلة الدولية ، فتمّ على هامش قمة العشرين في الهند والتي عُقِدت في أيلول 2023 الإعلان عن محور النظام الدولي الجديد عبر ما عُرِفَ بخط البهارات الهندي الرابط بين القارة الآسيوية والخليج العربي والشرق الأوسط ( وإسرائيل جزء رئيسي منه ) وصولاً لا وربا عبر المتوسط ، في حرب معلنة على خطوط الحرير الصينية واستبعاد إيران منه.
ولإجهاض هذا المشروع تَمّت عملية السابع من أكتوبر لخلط الأوراق بل لبعثرتها وخلق واقع جديد في المنطقة يحول دون تنفيذه.
وفي الجزء الثاني من المقال سوف أقدم تصوري للمرحلة التي بدأت بعد ط و ف ا ن ا لا ق ص ى مروراً باغتيال الأمين العام لحزب الله ووصول المشروع الدولي في الشرق الأوسط لخواتيمه.
تحليل رائع الله يعطيك العافية دكتور
مقال رائع غير أن بعض المعلومات الأساسية التي بنت الولايات المتحدة الأمريكية عليها سياساتها بُعَيد انهيار الجدار الشيوعي 1991 لم تكن دقيقةً مثال (ضرب برج التجارة العالمي)
لم يكن سوى عملية خداع استراتيجي تهدف إلى خداع الرأي العام الأميريكي بهدف جره للوقوف إلى جانب حكومة بوش الأب من خلال عملية مخابراتية معقدة تم بموجبها خداع بن لادن بأن أتباعه هم من نفذوا تلك العملية الرهيبة التي تعجز عن تنفيذها جميع دول العالم ،وبذلك تم إلصاق عملية ضرب برج التجارة العالمي بالإسلام الذي كان المخطط الأميريكي يقضي بضربه إستباقياً كعدوٍ مفترض قبل أن ينهض مجدداً
ومن يقرأ كتاب صدام الحضارات لصموئيل هينتينغتون الصادر بُعَيْد إنهيار الشيوعية يجد الكثير من الشواهد على ذلك، سيما الطرح التفاضلي الذي عرضه الكاتب ما بين خيارات البدء مابين العدوين المفترضبن (الإسلام والكونفوشوسبة الصينية)
وقد رجح الكاتب البدء بالإسلام لعدة اسبابٍ منها سهولة السيطرة على الرقعة الإسلامية اكون المسلمين غير موحدين في دولة واحدة ولكون الرقعة الجغرافية الاسلامية هي الاكثر ثراءً بالخامات الطبيعية والأكثر قابلية للاصفاف الى جانب الولايات المتحدة الأميريكية في مواجهة الأخيرة للقوى
العالمية الكبرى التي تطمح لصناعة قطب عالمي جديد مستقل عن القطب الامريكي كمنظمة بريكس .
عبدالجواد الموسى.
5/10/2024 الشمال المحرر.
حياك الله دكتور باسل مقال رائع يستحق التمعن والتفكير مليا