لقد كانت ولادة الشرق الأوسط الجديد طبيعية جداً ميسرة سلسة لم تحتاج الى جراحة قيصرية، وكان المخاض في تموز 2006 مخاضا سهلا لا عسرة فيه، ولم يحتاج الى جراح ماهر لأن القابلة القانونية (كونداليزا رايس) كانت ماهرة في استخراج الوليد، الذي فرح لقدومه الساذجين المغفلين، وأقيمت الأفراح ورفرفت الرايات الصفراء خفاقة في كل ارجاء المحافظات السورية وأقيمت الأفراح والدبكات في المدن والقرى والبلدات. ولم يكن يخطر في بالهم بأن المولود حملت به لبنان كان حملا سفاحاَ.
بعد حرب تموز 2006ارتفعت أسهم حزب الله عاليا في عيون العرب والسوريون، وأصبحت السيارات التي تحمل صور نصرالله تجوب في الشوارع دون رادع أو رقيب أو حسيب وغطت شعبية نصرالله على بشار الأسد، وأطلق العنان لخطاباته الرنانة التي تشابه خطابات أحمد سعيد الذي سيرمي بالإسرائيليين في البحر، حيث شكلت صورة حزب الله محطة مفصلية سياسيا وعسكرياً وانسانياً ومجتمعياً، الذي كان يراه الكثير من السوريين زعيماً مقاوما عن العروبة، قبل أن يصدمهم بتوجيه بندقيته المقاومة عند اندلاع الثورة إلى صدور السوريين.
لقد ركز حزب الله في البداية على دمشق وريف دمشق وخاصة على السيدة زينب ومحيطها ومنطقة الجامع الأموي ومقام السيدة رقية من اجل تشكيل السوار المحيط بالمعصم ومنع التقدم باتجاه العاصمة لكنه لم ينسى المنطقة الوسطى المحافظة الأكبر ، المتمثلة بمحافظة حمص التي ترتبط بحدودها الأربعة مع لبنان والعراق ودير الزور ودمشق وحماه ، وأختار حزب الله منطقة القصير الاستراتيجية المتصلة بحدود طويلة مع لبنان، وجعل منها الميدان الأساسي الذي ركز فيها حزب الله كل جهوده الرئيسية بعدما زج الوسائط والقوى الرئيسية منها الى الشرق باتجاه بادية حمص ، وجعل منها غرفة العمليات الرئيسية التي ينطلق منها باتجاه الشمال والجنوب والشرق والغرب من دون عناء بالتعاون والتنسيق مع نظام الأسد من الاحتفاظ بالمدينة، وريفها الواسع المترامي الأطراف ، وتهجير سكانها إلى منطقة القلمون وقسم آخر إلى لبنان.
مع اشتعال حرب غزة استغل حزب الله الفرصة لتنفيذ المرحلة الثالثة بعد المرحلة الأولى التي تمثلت بحرب تموز عام 2006 والمرحلة الثانية التي تمثلت بالثورة السورية ، بدأ حسن نصرالله بتنفيذ المرحلة الثالثة بأوامر إيرانية بتنفيذ مسلسل التغيير الديموغرافي بالعمل على ماكينة نسيج التغيير الديموغرافي لإكمال أهم حبكاته بتنفيذ ضربات ورمايات غير مباشرة من جنوب لبنان لاتسمن ولاتغني من جوع ليأتي الهجوم المعاكس الجوي الإسرائيلي الذي يجبر سكان قرى الجنوب للنزوح تحت وطأة الضربات والذي سيضطرهم للبحث عن وطن بديل تهجروا منه أهله قسرا وبالقوة من قبل أهالي هؤلاء النازحين ، وهذا الوطن هو القصير وطن بلا شعب هجرتهم منه نفس القوى بنفس الأسلوب والأدوات.. وهنا يتبادر للذاكرة قيام حزب الله بمنع أهالي القصير من العودة الى أراضيهم حيث أن الأمر كان مخطط مسبقا لتوطين أهالي الجنوب في القصير وماسبقه منذ فترة ليست طويلة الاستيلاء على منازل المواطنين في خان شيخون والاستيلاء عليها استيطانها،
في الواقع لم تعد تتحمل ساحة الشعور بكثرة تداعي مخزونات الذكريات التي تكدست في ساحة اللاشعور من أجبار سكان الزبداني ومضايا وعين الفيجة واتفاقية المدن الأربعة التي قضت باستبدال سكان هذه المناطق المعارضين لبشار الأسد بمواطنين سوريين من كفريا والفوعة فقط لأنهم من الطائفة الشيعية ، وللأسف هذا التغيير الديموغرافي بإشراف الأمم المتحدة التي تم إنشاءها بموجب القانون الدولي الذي يقضي حماية المدنيين في المناطق التي تشهد صراعات ونزاعات مسلحة ومنع التغيير الديموغرافي فيها ، وما تهجير الغوطتين الشرقية والغربية ، والقلمون وحلب وحمص ودرعا التهجير القسري والركوب الباصات الخضراء المشؤومة التي بات يتغنى بها إعلاميين نظام الأسد، عداك عن إجبار الأهالي على بيع منازلهم ومنعهم من العودة الى الأحياء الجنوبية منها وبيع محلاتهم التجارية، وحرق الأسواق القديمة بالحريقة والحميدية والبزورية والمسكية، وإلغاء دفاتر العيلة، والغاء رقم القيد (الخانة) في سورية بقرار رسمي، فكل ذلك لم يأتي من فراغ.
لم يعد يخفى على أحد بأن التغريبة السورية هي من أصعب الكوارث التي ألمت بالإنسانية في القرن الواحد والعشرين وسيطالب الشعب السوري من نفس القوى المغتصبة حق العودة كما يفعل اهلنا المهاجرين من فلسطين منذ عام 1948 حتى الآن، ولايخفى ايضاً على السوريين بأن لكن القصة بكل فصولها استغرقت على مدار ما يزيد عن نصف قرن حيث كان الفاعل كان وكيلا مأجوراً على وطن لا يمت له بأية صلة، ينفذ تعليمات الذين قاموا بتوكيله من أجل فصله عن حاضره وماضيه.
كل الكلمات في الوجود ولا حتى عبارة عميل لا تكفي بالتعبير ووصف عمالة من تنازل عن جزء سليب مثل الجولان السوري وباعه مقابل بقاؤه على الكرسي فهي تمنحه زيادة عن قدره تلك النعوتات ،لأن الخائن لاينتمي الى وطن قام بخيانته، ومن خلفه وريثه القاصر الذي باع وطن بأكمله للغرباء ولم يكن مستعداً بالاعتذار عن أفعال أجهزته الأمنية التي فتكت وهتكت كرامة شعب بأكمله ولو بكلمة واحدة تجبر خواطر من عاشوا عقوداً يمجدونه يلتحفون رغيف الخبز تارة ويفترشونها تارة أخرى يتكيفون مع تقلب الأنواء صبرا وإبداعا في سبيل الحفاظ على ذاك الوطن.
الشعب السوري الذي رحب وهلل لجمهور لحزب عام 2006 وفتح بيوته لنازحي جنوب لبنان واستضافهم في دياره وتقاسم معهم لقمة العيش من المأكل والمشرب والمنامة والمعيشة ، هو نفسه الشعب السوري اليوم الذي نقشت تعليقات الغالبية منه معالم صورة مختلفة ومغايرة عما سبق وابتعدت كل البعد عما كانت عليه، في عام 2006، يعني ذلك التغيير والعودة بالذاكرة المريرة إلى صدمة نكران الجميل من قبل حزب الله المأجور، فتغيرت الحالة من الدعم المعنوي اللامحدود إلى اللادعم الممزوج بحالة من التشفي والشماتة، التي عبر عنها السوريون خلال الأيام الماضية عن شماته مما حصل (تفجيرات البيجر اللاسلكية ) هي خير دليل على ذلك”.
لقد إنكشف حزب الله الأداة الأكبر في مخطط إيران التخريبي عندما كان يتبادل الأدوار مع داعش ويقوم بالتنسيق معها بحماية المناطق الاستراتيجية الهامة لمنع الجيش الحر من التقدم والسيطرة عليها ، ريثما تسمح الفرصة لحزب الله العودة اليها وتسليمه إياها وأكبر فضيحة كانت عندما تم نقل عناصر داعش بباصات البولمان المكيفة من الحدود اللبنانية السورية الى البوكمال والباغوز بإشراف حزب الله ، وطلب حسن نصرالله من كل الأطراف عدم التعرض لهذه الحافلات ، مقابل ما قدمته داعش من خدمات لحزب الله من استلام الحدود من منطقة القاع اللبنانية الى القلمون الغربي، والتصدي لثوار القلمون عندما كان حزب الله والميلشيات الإيرانية مشغولة في الشمال السوري.
في نهاية المطاف لا شك بأن الحرب الدائرة اليوم على لبنان ماهي إلا حلقة من مسلسل ولادة الشرق الأوسط الكبير الممتد من لبنان الى دمشق والعراق وصولا لليمن وما تخفيه الأيام القادة أدهى وأمر.
لم يأتي احتلال القصير من قبل حزب الله من فراغ لاكمال الهلال الشيعي الذي يربط القصير بمدينة. حمص بلبنان من الغرب وحمص بطبيعة الحال من الشرق العراق