لم يعي الإيرانيون او يتعلموا من الدرس الروسي في شَنّ حربهم على أوكرانيا عندما أساؤوا تقدير الموقف و أخطؤوا في كل حساباتهم ، عندما بنووا تلك الحسابات على أساس المبالغة في تقدير حجم قوتهم والإقلال من حجم قوة خصومهم .
وعندما أيقنت القيادة الروسية أنّ عهد الإدارة الديمقراطية الجديدة سيكون مُترهلاً مثل شيخوخة رئيس البيت الأبيض ، وإنّ الشعب الأوكراني سيستقبل الغزاة الروس برشّ الأرز والورود عليهم وهذا ناتج عن ضعف تقديراتهم الإستخبارية وعجزها عن تقييم حالة الشعب الأوكراني ،فغاص الروس في مستنقع علمنا بدايته 24 شباط 2022 ولا يُمكن لأحد التكهن بنهايته.
كانت التقديرات الإيرانية مبنية على الكثير من الأوهام والأساطير ، منها أوهام القوة الزائفة التي تم تصديرها للجمهور حول قدرة الحرس الثوري الإيراني بكبسة زر وخلال سبع دقائق ونصف من إزالة الكيان الإسرائيلي ، وهذه المقولات كانت تَصدُر عن كبار القادة في طهران ويتم التصربح بها على العلن وليست ناتجة عن تقديرات شعبوية لإعلاميين أو رجال دين مغمورين ، و لأن العقلية الإيرانية الحاكمة نازية فقد اعتمدت أسلوب غوبلز وزير إعلام هتلر بمقولته الشهيرة إكذب ثم إكذب حتى يُصدّقك الناس وتُصدّق نفسك.
كان يتمّ نشر أساطير دينية عن قُرب تفكك الدولة اليهودية ومنهم من تمادى باغراقه بلاهوتيته المزيفة وحدد عام 2024 كموعد لهذا الإنهيار ، وكان لايريد أن يرى قوة عمليات الموساد في الداخل الإيراني من قتل علماء الذرة الإيرانيون وبعض قيادات الحرس المُهمّين ، إلى سرقة الأرشيف النووي من قلب طهران ، ويتجاهل الغارات الاسرائيلية المستمرة لأعوام بإستهداف التموضعات النوعية الإيرانية في سوريا وعدم جُراة إيران على الرد عليها.
كانت التقديرات الإيرانية ( وتقديرات العقل السياسي الجهادي بنوعيه السني والشيعي) تستند إلى جملة بديهيات لاتقبل النقاش ، وهذا يَدلّ على قصور فاضح في فهم العقلية الإسرائيلية الجمعية والتي بالتأكيد موجودة عند النخب الحاكمة ، فمثلا كانت البديهية الأولى أنّ الجيش الإسرائيلي لايقدر على خوض حرب طويلة وأطول حرب خاضها هي حرب تموز 2006 التي إستمرت 33 يوم ، وأنّ الإقتصاد الإسرائيلي لايتحمل تعطيله كلياً أو جزئياً ،إذ سيضغط بارونات المال والأعمال لإيقاف أيّ حرب ، كما تمت المبالغة بأهمية الرهائن الذين يتم خطفهم ، حيث سيتحرك الشارع الإسرائيلي للضغط للتفاوض على عودتهم وعدم تعريضهم للأخطار ، كما أنّ من سوء حسابات الحرس الثوري الفشل في تقدير رَدّة الفعل الغربية والأمريكية منها خاصةً ، حيث ستعمل إدارة بايدن على تطويق الأزمة ومنع إنفجارها وذلك لعدم قدرة الولايات المتحدة على الحرب في أكثر من جبهة وهي مشغولة الآن بالجبهة الأوكرانية وتداعياتها الأمنية والإقتصادية على العالم كله ، كما أنّ الرئيس الأمربكي الديمقراطي سيكون مُوادعاً وليّناً حيث يتبقى له في الببت الأبيض عامه الأخير من عمر ولايته وهو يريد الوصول لإتفاق نووي مع ايران ، وهذا سيساعده حتماً باحتمال الفوز مرة أخرى في إنتخابات نوفمبر 2024 ..
كما أنّ الحرس الثوري أساء حقاً تقدير ردة الفعل الإسرائيلية عندما تتعرض الدولة والمجتمع لخطر وجودي خاصةً أنّ ربيعاً إسرائيلياً ضد نتياهو كان مُشتعلاً وتصل أعداد المتظاهرين إلى 400 ألف في مساء السبت والأحد وكان الإنقسام المجتمعي شاقولياً ووصلت بعض تداعياته للجيش نفسه ، وكان الإنقسام بين فئة تريد التمسك بعلمانية الدولة وفصل السلطات وتحجيم صلاحيات رئيس الوزراء وكف يده عن التدخل في السلطة القضائية بالذات والفئة الأخرى التي تؤمن بيهودية الدولة وتقديس القيم التوراتية بمعنى أصح أن تتحول إسرائيل إلى دولة شرقية بل دينية أيضاً وهذه المجموعة من غلاة الجناح اليميني الديني اليهودي تريد إثبات صحة عفيدتها التلمودية بتطبيق ما تؤمن به على الأرض ..
كما خانت الحكمة أصحاب القرار في إيران في معرفة ماذا تُمثّل إسرائيل للغرب ، وهل هي علاقة تحالف أم شراكة أم تبادل مصالح ، وقَدّر الإيرانيون أنّ الغرب يمكن أن يتخلى عن إسرائيل إذا كانت تكاليف الحفاظ عليها أكبر من المنافع المتحصلة منها ، وبعد السابع من أكتوبر تبين لهم مدى قوة العلاقة العضوية بين إسرائيل والغرب بحيث لايمكن التساوم بشأنها.
في ظل حقبة التخادم الإيراني الأمريكي والذي مَيّز العقدين الأولين من هذا القرن قد يكون الرئيس أوباما ( خاصةً والذي عُرِفَ عنه حبه للفرس ) أن تكون إيران ركيزة أساسية في الأمن الإقليمي للمنطقة و يمكن أن تتفاهم مع العرب والترك والإسرائيليون لتشكيل منظومة أمن إقليمية ترعاها الولايات المتحدة ، وقد أيقنت الولايات المتحدة بعد ذلك أن المشروع الإيراني الديني المسلح العابر للحدود لايُنتج نموذج تنمية وإستقرار في أماكن تواجده ولايمكنه التصالح أو التهادن أو التعاون مع الآخرين ، لذلك بدا التفكير الإستراتيجي الأمريكي يتجه إلى صوغ منهجه المقبل وهو شرق أوسط جديد لاوجود للميليشيات الإيرانية فيه بحيث يتم إنشاء منظومة أمن إقليمية في المنطقة ركيزتها الرئيسية التعاون بين العرب وإسرائيل مع إستبعاد الأتراك منه ، وهو ما بدأ يتجسد عملياً على الأرض عبر خط البهارات الهندي ..
بعد الغزو الروسي لأوكرانيا (والذي هو بجعة سوداء ) غَيّر كل المعطيات الإستراتيجية الغربية ، وأبدى الأوربيون إستعدادهم للموت من البرد على إستجرار الغاز الروسي ، لكن الإقلاع عن الإدمان على الغاز الروسي يحتاج لخطط بعيدة المدى وظهرت على السطح أهمية الممرات البحرية والتجارية وهي طرق لتوصيل الطاقة للقارة العجوز الباردة ، والاعتماد على حقول قريبة لتزويد أوربا بما تحتاجه ، وهنا تبرز أهمية الشرق الأوسط في هذا المجال حيث هو يضم العديد من حقول الطاقة وتمر منه سلاسل الإمداد ، ولتأمين ديمومة التوريدات وسلاستها لابد أن يتحقق الأمن والإستقرار في تلك المنطقة وخاصة الضفة الشرقية للبحر الأبيض المتوسط والتي تشكل ملتقى لحقول غاز حالية وواعدة وممر من منطقة الشرق الأوسط لأوربا لخط البهارات الهندي كما أنّ خطوط نقل الطاقة عبر الناقلات أو انابيب مستقبلية سيتم إنشاؤها في البحر .سيتطلب تنظيف الضفة الشرقية للمتوسط من كل تواجد إيراني أو روسي وهو ما يجري عليه العمل حاليا في غزة والشاطئ اللبناني وقريبا في الشاطئ السوري .
كما أن عدم السماح مستقبلاً بطوفان جديد يشبه طوفان 7 أكتوبر هو من بديهيات الأمن القومي الإسرائيلي ، وهو ما يوضح أسباب الحرب الحالية ونتائجها…
لذلك نرى أنّ المعارك التي تدور الآن في غزة ولبنان وسوريا ليست معارك عسكرية المقصود منها الإخلال بتوازن القوى لإرغام المنهزم على قبول ما كان يرفضه سابقاً بمعنى تحصيل نتائج سياسية من وراء الحرب وهو ماحصل في كل حروب ( ح ما س ) مع إسرائيل في السابق وفي حرب 2006 في لبنان بين الحزب وإسرائيل حيث كان نتيجتها القرار الدولي 1701…
المعارك التي تدور الآن هي معارك لإجتثاث كل الأذرع الإيرانية من المنطقة ، ولن تُعطِ إسرائيل وأمريكا أيّ مجال لهدنة أو صفقة مع ( ح ما س) والحرب الوحشية الإستئصالية مستمرة ولا أفق سياسي يُرتجى منها إلا إستسلام ( ال س ن و ار ) ومن معه دون قيد أو شرط….
نفس المعركة تدور الآن في لبنان على حزب الله وهي حرب لاجتثاث الحزب كله من لبنان وليس لإيقاع هزيمة عسكرية به تبعده عن الحدود الشمالية لإسرائيل كما يعلن نتياهو بحيث يعود المستوطنون النازحون إلى ديارهم بمعنى تطبيق القرار الدولي 1701 .
لم تلجأ اسرائيل في حروبها السابفة وخاصة حرب 2006 إلى اغتيال قيادي واحد في الحزب وعملت على تدمير البنى التحتية لكل اللبنانيين ،فيما في الحرب التي تدور رحاها الآن تقوم بتدمير البيئة الحاضنة من شيعة الحزب وتحويل هذا الخزان البشري الداعم إلى مجموعات من النازحين داخلياً وخارجياً و يحتاجون لأبسط مقومات الحياة ، ولا دعم إنساني دولي سيقدم لهم و تدمير البيئة الحاضنة للحزب لن يكون مؤقتاً لأنّ تدمير المنازل والقرى والأحياء يتم بتسويتها بالأرض وإنعدام فرص الحياة فيها مستقبلاً والغاية تهجيرها للعراق لتجريد حزب الله مستقبلاً من أيّ رافد بشري فيما إذا تسنى له فرصة مقاومة سرية للاحتلال الإسرائيلي مستقبلاً..
ويتفق الفريقان المتحاربان على الدمج بين الساحتين السورية واللبنانية لأنّ سوريا هي العمق الإستراتيجي للحزب والرابط بين محور إيران الإقليمي ..
وعلى ضوء تطورات الحرب في لبنان فانه من القريب أيضاً أن تبدأ في سوريا لاجتثاث التواجد الإيراني في هذا البلد ودفعه للتوجه شرقاً ، أما القاعدتان الروسيتان الجوية والبحربة على المتوسط فهناك سيناريوهات متعددة لإقتلاعهما ولن يتمسك بها الروس لأنها لم تعد ذات جدوى إستراتيجية في المنطقة ولن يتم منحهم مكافاة على اخلاء تلك القواعد فالبازار مغلق في وجه الروس
أما العراق فإن الوضع معقداً أكثر ويمتلك الحشد الشعبي الشيعي الموالي لإيران أعداءاً كُثر ورفضاً شعبياُ من عموم الشيعة الذين تم قمعهم في ثورة تشرين 2019…فيما شيعة حزب الله في لبنان لم تنضم للحراك الشعبي الذي جرى بالتزامن مع الحراك الشيعي العراقي وأثبتوا ولاءهم للحزب وولاية الفقيه أيضاً.
مقال يستحق القراءة لأكثر من مرة ، لاستيعاب المحاور التي اوردها الدكتور باسل على أكثر من اتجاه .
واستطاع الربط فيما بينها بعقلانية ورؤية شاملة للحالة الإيرانية الحاليّة .
إن اجتثاث الأصول هو الطريق الأمثل لإنهاء الأذرع .
دكتور باسل كتابات رائعة جدا دائما تكتب ماهو جديد ومفيد
سلمت يداك دكتور باسلمقال يستحق التدقيق والتمحيص